التَّيمُّم لغةً: القصد. وهُو بَدَلُ طهارَةِ الماءِ
وشرعاً: التَّعبُّد لله تعالى بقصد الصَّعيد الطَّيِّب؛ لمسْحِ الوجه واليدين به.
وهو من خصائص هذه الأمَّة لِمَا رواه جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أُعطيتُ خمساً لم يُعْطَهُنَّ نبيٌّ من الأنبياء قَبْلي: نُصِرت بالرُّعب مسيرة شَهْر، وجُعِلتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً، فأيّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكَتْه الصَّلاةُ فَلْيُصلِّ...»، الحديث (1) .
وكانت الأمم في السَّابق إِذا لم يجدوا ماءً بَقَوا حتى يَجِدوا الماء فيتطهَّروا به، وفي هذا مشقَّة عليهم، وحرمان للإِنسان من الصِّلة بربِّه، وإِذا انقَطَعَتْ الصِّلة بالله حَدَثَ للقَلب قَسْوةٌ وغَفْلةٌ.
وسببُ نزول آية التيمُّم ضياعُ عِقْد عائشة رضي الله عنها التي كانت تتجَمَّل به للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا العِقد عارية، فلما ضاع بقيَ الناس يطلبونه، فأصبحوا ولا ماء معهم، فأنْزَلَ الله آية التَّيمُّم، فلما نَزَلَتْ بَعَثُوا البعير، فوجدوا العِقد تحته؛ فقال أُسيد بن حضير رضي الله عنه: «ما هي بأوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آل أبي بكر» (2) .
قوله: «وهو بَدَلُ طهارة الماء» ، أي: ليس أصْلاً؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] فهو بدلٌ عن أصلٍ، وهو الماء.
وفائدة قولنا: «إِنه بدل» أنه لا يُمكن العمل به مع وجود الأصل؛ وإلا فهو قائم مقامه، ولكن هذه الطَّهارة إِذا وُجِدَ الماء بطلت، وعليه أن يغتسل إِن كان التَّيمُّم عن غُسْل، وأن يتوضَّأ إِن كان عن وُضُوء، والدَّليل على ذلك:....
1- حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه الطَّويل، وفيه قوله صلّى الله عليه وسلّم للذي أصابته جنابة ولا ماء: «عليك بالصَّعيد فإنه يكفيك»، ولمَّا جاء الماءُ قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «خُذْ هذا وأفرغْه عليك» (3) . فدلَّ على أنَّ التَّيمُّم يَبْطُلُ بوجود الماء.
2- قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصَّعيد الطيّب وُضُوء المسْلم، وإِن لم يَجِد الماء عَشر سنين، فإِذا وجَدَ الماء فَلْيَتَّقِ الله ولْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فإِن ذلك خيرٌ» (4) .
وهل هو رافِع للحَدَثِ، أو مُبيح لما تَجِبُ له الطَّهارة؟ اختُلِف في ذلك:
فقال بعض العلماء: إِنه رافع للحَدَثِ (5) .
وقال آخرون: إِنه مُبيح لما تجب له الطَّهارة (700) .
والصواب هو القول الأول:
1- لقوله تعالى لمَّا ذكر التيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] .
2- وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وجُعِلَت لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً» (6) ، والطَّهور بالفتح: ما يُتَطَهَّر به.
3- ولأنَّه بَدَل عن طهارة الماء، والقاعدة الشَّرعيَّة أنَّ البَدَل له حُكْم المُبْدل، فكما أنَّ طهارة الماء تَرفعُ الحَدَثَ فكذلك طهارة التَّيمُّم.
ويترتَّب على هذا الخلاف مسائل منها:
أ- إذا قلنا: إِنه مُبيح فَنَوى التَّيمُّم عن عِبادة لم يَستبِح به ما فوقها.
فإِذا تيمَّم لنافلة لم يُصلِّ به فريضة؛ لأن الفريضة أعلى، وإذا تيمَّم لِمَسِّ المصحف لم يُصلِّ به نافلة، إِذ الوُضُوء للنَّافلة أعلى فهو مُجْمع على اشتراطه بخلاف الوُضُوء لِمَسِّ المصحف، وهكذا.
وإذا قلنا: إنه رافع فإِذا تيمَّمَ لنافلة جازَ أن يُصلِّيَ به فريضة، وإِذا تيمَّم لمسِّ مصحف جاز أن يُصلِّيَ به نافلة.....
ب- إذا قلنا: إنّه مُبيح، فإذا خرج الوقت بَطلَ؛ لأن المبيح يُقتصر فيه على قَدْرِ الضَّرورة، فإِذا تيمَّم للظُّهر ـ مثلاً ـ ولم يُحْدِث حتى دخل وقت العصر فعليه أن يُعيدَ التَّيمُّم.
وعلى القول بأنه رافع، لا يجب عليه إعادة التيمُّم، ولا يَبطُل بخروج الوقت.
ج- إذا قلنا: إِنه مبيح، اشترط أن ينويَ ما يتيمَّم له، فلو نَوَى رفْع الحَدَث فقط لم يرتفع.
وعلى القول بأنه رافع لا يُشْترطَ ذلك، فإذا تيمَّم لرَفْع الحَدَث فقط جاز ذلك .
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه بَدَل عن طهارة الماء في كلِّ ما يطهِّره الماء؛ سواء في الحَدَث؛ أم في نجاسة البَدَن؛ أم في نجاسة الثَّوب؛ أم في نجاسة البُقعة، ولكن ليس هذا مراده، بل هو بَدَل عن طهارة الماء في الحَدَث قولاً واحداً؛ وفي نجاسة البَدَن على المذهب (7) ، أي أنه يتيمَّم إِذا عدم الماء للحَدَث الأصغر والأكبر، ويتيمَّم إِذا كان على بَدَنِه نجاسة ولم يَقْدِرْ على
وصِفَةُ التَّيمُّم. وإِنَّما يَذْكُر العلماء صِفَة العبادات، لأن العبادات لا تَتِمُّ إِلا بالإِخلاص لله تعالى، وبالمتابعة للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، والمتابعة لا تتحقَّق إِلا إِذا كانت العبادة موافِقَة للشَّرع في سِتَّة أمور:
فلا تُقْبَل العبادة إِلا إِذا كانت صِفَتُها موافِقة لما جاء عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا احتاج العلماء إِلى ذِكْر صِفَة العبادات كالوُضُوء، والصَّلاة، والصِّيام وغيرها.
قوله: «أَنْ يَنْوِي» . النِّيَّة ليست صِفَة إِلا على سبيل التَّجوُّز، لأن مَحلَّها القلب، وقد سبق الكلام على النِّيَّة .
قوله: «ثم يُسَمِّي» ، أي: يقول: بسم الله.
والتَّسمِيَة هنا كالتَّسْمِية في الوُضُوء خِلافاً ومذهباً ، لأنَّ التَّيمُّم بَدَلٌ، والبَدَلُ له حُكْم المبدَل.
قوله: «ويَضْرِبَ التُّرابَ بِيَدَيْه» ، لم يَقُلْ: الأرض، لأنَّهم يشتَرِطون التُّراب، والصَّواب أن يُقال: ويَضْرِب الأرضَ سواء كانت تراباً، أم رَمْلاً، أم حجَراً.
مُفَرَّجَتَيْ الأصَابِعِ، يَمْسَح وَجْهَهَ بِباطِنِها، وكفَّيهِ براحَتَيْهِ، ويُخَلِّلَ أَصَابِعَه.
قوله: «مُفَرَّجَتَي الأصَابِعِ» ، أي مُتَباعِدة؛ لأجْل أن يَدْخُل التُّراب بينها، لأنَّ الفقهاء يَرَوْن وُجوب استيعاب الوَجْه والكفَّين هنا، ولذلك قالوا: مُفَرَّجَتَي الأصابع.
والأحاديثُ الواردة عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه ضَرَب بِيَديه ليس فيها أنه فرَّج أصابعه. وطهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّسهيل والتَّسامُحِ، ليست كطهارة الماء
قوله: «يمسح وجهه بباطنها وكفَّيْه بِراحَتَيْهِ» ، أي: بِباطن الأصابع، ويَتْرُك الرَّاحتَين، فلا يَمْسَح بهما، لأنه لو مَسَحَ بكلِّ باطن الكفِّ، ثم أراد أن يَمْسَح كفَّيه؛ صار التُّراب مستعمَلاً في طهارة واجبة؛ فيكون طاهراً غير مطهِّر على المذهب؛ بناءً على أنَّ التُّراب ينقسم إِلى ثلاثة أقسام: طَهُور، وطاهر، ونَجِس كالماء. وهذا غير مُسلَّم، والصَّحيح كما سبق أنَّه لا يوجد تراب يُسمَّى طاهراً غيرُ مطهِّر ، وأن التُّراب المستعمَل في طهارة واجبة طَهُور، وحينئذ لا حاجة إِلى هذه الصِّفة؛ لأنها مبنيَّة على تعليل ضعيف، ولا دليل عليها؛ بل الدَّليل على خلافها، فإِن حديث عمَّار: «مَسَحَ وجْهَه بيَدَيْه» ( بدون تفصيل، وعلى هذا فنقول: تَمْسَح وجهَك بيدَيك كِلتَيْهما، وتمسح بعضهما ببعض.
قوله: «ويخلِّل أصابِعَه» ، أي: وُجوباً، بخلاف طهارة الماء فإِنه مُسْتَحَبٌّ، لأن الماء له نفوذ فيدخل بين الأصابع بدون تخليل، وأما التُّراب فلا يجري فيحتاج إِلى تخليل (9) .
ونحن نقول: إِثبات التَّخليل ـ ولو سُنَّة ـ فيه نَظَر؛ لأن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم في حديث عمَّار لم يخلِّل أصابعَه.
فإِن قيل: ألاَ يدخل في عُموم حديث لَقيط بن صَبِرة رضي الله عنه:
«أَسبغ الوُضُوء، وخلِّلْ بين الأصابِع، وبالِغْ في الاسْتِنْشاق» (10) .
أجيب: بالمنْع؛ لأنَّ حديث لَقيط بن صَبِرَة في طَهارة الماء.
ولهذا ففي النَّفس شيء من استحباب التخليل في التَّيمُّم لأمرين:
أولاً: أنه لم يَرِدْ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
وثانياً: أنَّ طهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّيسير والسُّهولة، بخلاف الماء؛ ففي طهارة الماء في الجنابة يجب استيعاب كل البَدَنِ؛ وفي التَّيمُّم عُضوان فقط، وفي التَّيمُّم لا يجب استيعاب الوَجْه والكفَّين على الرَّاجِح، بل يُتَسامَح عن الشَّيء الذي لا يَصِل إِليه المسْح إِلا بمشقَّة كباطن الشَّعْر، فلا يجب إِيصال التُّراب إِليه ولو كان خفيفاً، فيُمْسَح الظَّاهرُ فقط، وفي الوُضُوء يجب إِيصال الماء إِلى ما تحت الشَّعر إِذا كان خفيفاً، ولأن التَّيمُّم لا مضمضة فيه ولا استنشاق، ولأنَّ ما كان من غضون (مسافط) الجبهة لا يجب إِيصال التراب إِليه بخلاف الماء.
فالصَّواب: أن نَقْتَصِر على ظاهر ما جاء عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا، واتِّباع الظَّاهر في الأحكام كاتِّباع الظَّاهر في العقائد، إِلا ما دلَّ الدَّليل على خلافه.
لكنَّ اتَّباع الظَّاهر في العقائد أَوْكَد، لأنها أمُور غيبيَّة، لا مجال للعَقْل فيها؛ بخلاف الأحكام؛ فإِنَّ العَقْل يدخل فيها أحياناً، لكن الأَصْل أَنَّنا مكلَّفون بالظَّاهر.
والكيفيَّة عندي التي توافق ظاهر السُّنَّة: أن تَضْرب الأرض بيدَيك ضَرْبة واحدة بلا تفريج للأصابع، وتَمْسَح وجهك بكفَّيك، ثم تَمْسَح الكفَّين بعضهما ببعض، وبذلك يَتِمُّ التَّيمُّم.
ويُسَنُّ النَّفْخ في اليدين؛ لأنه وَرَدَ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم (11) ، إِلا أن بعض العلماء قيَّده بما إِذا عَلِق في يدَيه تراب كثير (12) .
__________
الثلاثاء ديسمبر 30, 2014 11:30 am من طرف انوش الشريره
» دورة تحقيق الريادة القيادية الإبداعية والوصول الى
الإثنين ديسمبر 29, 2014 8:43 pm من طرف انوش الشريره
» دورة تنمية مهارات التفاوض مع المحترفين – 2015م (Le
الأحد ديسمبر 28, 2014 6:20 pm من طرف ندى الجندى
» دورة الإستراتيجيات المعاصرة فى صياغة وتنفيذ العقود
الأحد ديسمبر 28, 2014 5:43 pm من طرف ندى الجندى
» دورة برنامج إدارة العقل بإستخدام تقنيات القراءة ال
الأحد ديسمبر 28, 2014 12:39 pm من طرف انوش الشريره
» دورة الرقابة على تنفيذ الأنظمة واللوائح القانونية
الجمعة ديسمبر 26, 2014 7:18 pm من طرف ندى الجندى
» دورة فنون ومهارات كتابة المذكرات والمراسلات القانو
الجمعة ديسمبر 26, 2014 6:47 pm من طرف ندى الجندى
» دورة إقتصاديات الإنتاج والجدوى الفنية – لعام 2015م
الأربعاء ديسمبر 24, 2014 10:56 am من طرف انوش الشريره
» دورة الكتابـة والترجمة القانونيـة وتقنيات الصياغـة
الثلاثاء ديسمبر 23, 2014 6:38 pm من طرف ندى الجندى